الدين والفلسفة
من الدروس التي نتعلمها من ابن رشد أن مشكلة الدين مع الفلسفة لا تنبع من داخل الدين ذاته، إنما هي مشكلة خارجية سببها «عوام الفقهاء»، وعوام الفقهاء من الساسة والجمهور على السواء، هم في كل ملة ونحلة وأمّة، وليسوا من اختصاص أمة الإسلام.
فقد عُرفوا في بلاد اليونان، وعانى منهم أنكساغوراس وسقراط، اضطروا الأول إلى الهجرة، واضطروا الثاني إلى الموت الزؤام. ثم عرفوا في بلاد اللاتين فأعدموا الفيلسوف الإيطالي جوردانو حرقا، وأوشكوا أن يُلحقوا عالم الفلك الإيطالي جاليليو بسقراط، لولا حيلة نفعته في الحفاظ على حياته.
وعوامّ الفقهاء هؤلاء من المشاركين لنا في الملة وغير المشاركين يصدرون عن رؤية ظاهرية ضيقة تعتبر أن الموروث مقدّس وأن الخروج عمّا يسلم به الناس هو خروج عن النّظام، ولما كانت الفلسفة ضرباً من فكر حر يرفع منهجاً يقوم على دعامتين: الحوار والتعليل، وهما آليتان لا تسكنان إلا الفكر المنفتح، لم يكن لهؤلاء العوام أن تتّسع صدورهم لسماع ما سبق إلى فهمهم خلافه، فيتولّد عن هذا الموقف جرائم في حق الفكر وأهله. نلمس هذا في مدينتنا الإسلامية في مواقف متعددة، فالمنصور بن عامر هجم على مكتبة الخليفة المتنور الحَكم بن هشام الأموي في الأندلس، بعد وفاته، وهي التي كانت تضج بكتب العلم والفلسفة، فأحرق ما فيها من موادّ فلسفية.
وقد عانى ابن رشد هؤلاء العوام حتى إنه عندما يحكي عن محنته التي مر بها في عهد الخليفة المنصور الموحدي، لا يرى موقفاً مر به أشد من موقف إخراجه من المسجد مع ابنه محمد ورشقه بالحجارة، ولا يحكي عن النفي القاسي إلى «أليسانة»، التي كانت معروفة في الأندلس بسكنى اليهود، وكأن أهله بذلك أخرجوه من قوميته وملته إشارة ورمزاً.
عوامّ الفقهاء خطر على الفكر الحر عندما ينحصر فكرهم في دائرة التقليد وقصورهم عن درجة الاجتهاد، ولما كان فكرهم يدور في رحى التقليد لم تكن لهم تلك المقدرة على دراسة الفلسفة ومعرفة نظامها الفكري حتى يستطيعوا الحكم عليها حكماً موضوعياً، انطلاقاً من القاعدة الفقهية الشهيرة «الحكمُ على الشيء فرعٌ عن تصوره»، فيُسهموا بذلك في انتعاش الفكر الفلسفي بانتقاداتهم العلمية وجرأتهم الفكرية.
الفلسفة هي منهج في النظر، وليست موضوعات مقدسة تدّعي العصمة ولا تقبل النقد. ولنا في الإمام الغزالي، حجة الإسلام، نموذجاً رائعاً لفقيه مجتهد كتب «مقاصد الفلاسفة» قبل «تهافت الفلاسفة»، فعرض في الكتاب الأول فلسفة زمانه بلغة الفلاسفة ومنهجهم في النظر، حتى إن هذا الكتاب عندما ترجم اللاتين مقدّمته، حسبوا الغزالي فيلسوفاً مشائياً على غرار الفارابي وابن سينا. وحاول في الكتاب الثاني أن يُفنّد ما رآه خارجاً عن التّقليد الفلسفي الإسلامي، وإن كان قد شطّ في الحكم بالتكفير على مخالفيه.
لكن لا أحد يستطيع أن ينكر أن الغزالي كان فيلسوفاً، الأمر الذي شهد له به تلميذه وخصمه في الآن نفسه، ابن رشد الفيلسوف. قام ابن رشد في كتابيه، «مختصر المستصفى» و«بداية المجتهد» بأمر جليل، قدم الأدوات الضرورية لخلق المجتهد في المدينة الإسلامية، ونبّه إلى خطورة «عوام الفقهاء»، فلا ينبغي أن تخلو المدينة، عنده، من فقيه مجتهد، لأن المدينة إذا تمكّن منها هؤلاء العوام أهلكوا الفكر والنظر.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية- جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.